أحمد قاسم :
في خضم هذه الحرب المجنونة التي أنتجتها النظام السوري من أجل بقائه ولو على أنقاض التدمير أو تفريغ سوريا من مواطنيها عن طريق الإبادة والتهجير, عمل النظام جاهداً إلى كسب ما يسمى بالأقليات أو تحييدها عن الصراع الدموي الذي بات يأكل الأخضر واليابس. حيث استغل شكل تسليح المعارضة, وفتح المجال أمام دخول مجموعات سلفية إسلاموية متطرفة, بالإضافة إلى خلايا منظمات إرهابية, في معظمها صنيعة النظام نفسه لتجنيده من أجل تشويه صورة الثورة التي اندلعت في أساسها بشكل سلمي. وكذلك استغل النظام العجز الدولي الذي انشل أمام اعتراض روسيا والصين على اي قرار دولي من شأنه إدانة النظام ووقفه إلزامياً على استعمال العنف ضد المتظاهرين السلميين, ليستفرد بالشعب واستعمال كل قواته المدججة بالسلاح ودفعها نحو قمع الإحتجاجات بشكل وحشي من دون أي رادع قانوني و أخلاقي, و ليشعل حرباً استثنائياً باسم محاربة العصابات والإرهابيين تارة, أو مواجهة مؤامرة كونية ضده تارة, وأحياناً يتبجح بأنه يحارب الفتنة الطائفية التي تريد تدمير وتقسيم سوريا. لقد اصبحت سوريا بلد الخوف والرعب, فاقدة كل معالم وأسباب الحياة وسط هذه الرحلة المدمرة. رحلة تغيرت وجهتها المفترضة, و فرضت على شعبها من دون إرادتها تغيير المسار. حيث اختارت لها مجموعة من الدول التي باتت وكأنها شريكة لهذا الصراع الدموي والتدميري, متجاوزة كل خصوصيات سوريا العرقية والدينية لحرق هويتها وخصوصيتها, والعمل على ولادة سوريا مستنسخة عن ما هي عليها كما اختارتها من نشأتها سابقاً, فاقدة الهوية والروح والمعنى, متجهة نحو مجهول مرعب لدى كافة أبنائها ومن جميع الإنتماءات. حيث يتم استغلال وحشية وتعنت النظام ابشع استغلال, ودفعه باتجاه تنفيذ ما يخطط لسوريا من وراء الكواليث.
لقد ولدت سوريا نتيجة انهيار الإمبراطورية العثمانية في نهايات العقد الثاني من القرن العشرين. ووفقاً لإتفاقية سايكس ـ بيكو لعام 1916 تم إقرار تشكيل العديد من الدول في المنطقة من دون إرادة شعوبها, ومنها دولة سوريا التي أخضعت للإنتداب الفرنسي من عام 1920 إلى عام 1945 مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. حيث أُجبرت شعوب هذه المنطقة التي سميت بسوريا القبول بالأمر الواقع والخضوع لقانون الإنتداب.. وللعلم بأن كل الثورات التي اندلعت ضد الفرنسيين ( من جبل العلويين إلى جبل الدروز, ومن شمالي حلب وجبل الزاوية إلى حوض الفرات والجزيرة ) كانت ضد تنفيذ اتفاقية سايكس ـ بيكو والإنتداب الفرنسي, ومن قبل تلك المكونات التي تسمى اليوم بالأقليات, حيث تخضع لإبتزازات شتى والصهر العنصري من قبل الفئات الإسلام السياسي والمتبجحين بالعروبة. وتؤكد التاريخ أن هذه المناطق كانت إمارات تتمتع بالإدارة الذاتية في ظل الحكم العثماني, وأبت أن تخضع لحكم عسكري يقضي على خصوصيات وحقوق والمكتسبات الطبيعية لكل مكون من مكونات التي تأطرت بهذه الجغرافية السياسية وصهرهم قسرياً في بوتقة ( ما سميت بالشعب السوري ). ومع تطور الأحداث وترسيخ سياسات الحرب الباردة على المستوى العالمي بين المعسكرين ( المعسكر الغربي وحلف الشمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية, والآخر سميت بالمعسكر الشرقي من منظومة الدول الإشتراكية وحلف وارسو بقيادة الإتحاد السوفيتي السابق ), اضطرت مكونات الشعب السوري على قبول مبدأ التعايش فيما بينها على أساس الشراكة في ادارة هذه الدولة الفتية مع الحفاظ على خصوصية كل مكون وكل منطقة. لتمر سوريا بفترتها الذهبية في بدايات أعوام الخمسينيات من القرن العشرين, لتدار بإدارة أسست وفق نظام ديمقراطي لم تشهدها المنطقة من قبل, حيث كانت الإدارة قائمة على أساس الشراكة بين المكونات من دون تمييز أو تفريق أو تهميش أي مكون لحساب مكون آخر. إلى أن قامت الوحدة بين سوريا ومصر بشكل إنقلابي وفرض حكم العسكر وقانون الطواريء على سوريا من قبل قوميين العرب بقيادة جمال عبد الناصر. ومنذ ذلك التاريخ, فقدت سوريا هويتها الحقيقية وخضعت للإبتزاز القومي من قبل القموميين العرب( من الناصرية إلى البعثية) ومحاولة صهر كافة المكونات من الشعب السوري في بوتقة القومية العربية المختلقة من قبل فئة عسكرية تسلقت إلى أعلى الهرم بشكل إنقلابي لتستلم السلطة وتتبجح بالشعارات القومية من أجل استمراريتها, وكذلك إتهام كل من ليس عربياً باتهامات معادية للعروبة والوطن, وفي مقدمة المتهمين في هذا المجال, كان المكون الكوردي ولازال.
إن قضية الهوية للشعب السوري ترتبط بشكل وثيق مع قضية الهوية للوطن الذي ينتمي اليه هذا الشعب. وبما أن الشعب السوري يتشكل من العديد من القوميات والأديان والمذاهب, فمن الأولى بالثورة السورية البحث عن الهوية الحقيقية لسوريا. وأن تأجيل البحث وعدم تحديد تلك الهوية, سيؤثر سلباً على ماهية الثورة وحقيقة أهدافها, إن كانت أهدافاً, كما أعلنتها منذ بداية الثورة, وهي إسقاط النظام وتأسيس البديل الديمقراطي التعددي التشاركي, تحقق العدل والمساواة بين كافة مكونات هذا الشعب.. بمعنى, إنهيارالدولة القومية وبناء الدولة التي تحتضن العديد من المكونات مع الحفاظ على خصوصياتها من دون تمييز أو تفريق, وعدم إعلاء شأن مكون من دون مكون آخر.
لقد ولدت سوريا منذ ولادتها بشكل مشوه ومن دون هوية محددة. واستمرت الحكومات التي توالت على حكمها طوال فترة ما بعد الإستقلال( عدا فترة بدايات الخمسينيات من القرن الماضي, والتي كانت محاولة لتحديد هوية سوريا.. إلا أن القوميين العرب أجهضتها ) على أساس, حكم البلاد بهوية عروبوية مشوهة. واصبغت لون سوريا بلون عربي تحقيقاً لشعار البعث وفكره الشوفيني الذي غير معالم سوريا التاريخية والجغرافية بغية صهر سوريا تاريخاً وجغرافيا وسكاناً في فرنه الملتهب ليرتكب جينوسايداً من نوع آخر. التطهير العرقي والجغرافي والتاريخي.
أبت كل المكونات الخضوع للصهر بسياسة براغماتية مسايرة لبطش النظام من جهة, والحفاظ على هويته كمكون له خصوصيته في داخله من جهة أخرى, منتظراً الظروف التي يمكن أن تساعده و الشعب السوري للنهوض من أجل التغيير والإصلاح بطرق سلمية. إلا أن النظام رفض كل المشاريع والطروحات السلمية والديمقراطية إلى ن اندلعت الثورة, وحصل ما حصل. والآن نحن ننتقل من أزمة إلى أخرى.
أزمة المعارضة وفقدان هويتها, وعدم تمكنها من تحديد هوية سوريا الحقيقية التي اندلعت الثورة من أجلها أصلاً, خلقت أزمة أخطر, وهي أزمة الثقة بين مكونات الشعب السوري تخوفاً من المجهول الآتي. ومن المعلوم والمسلم به, أن أية ثورة في العالم حينما تندلع, تحدد هويتها, وأسباب إندلاعها وما ستنتج بعد انتصارها لتحديد هوية البلد من جديد. ولكن مع الأسف الشديد, الذي نرى ونشاهد ونقرأ ونتابع عن كثب حول هذه الثورة, نصطدم وننصعق عندما نرى ثورة فاقدة للهوية, إن لم نقل هويتها مستنسخة من الهوية المشوهة التي عانينا منها طوال مراحل من عمر هذه الدولة منذ نشأتها. هوية العروبة أو هوية الإسلام السياسي. وجهان لعملة واحدة , توحي التفرد والدكتاتورية والإستبداد من نوع آخر في حالة انتصارها.
البديل: نحن أمام معضلة صعبة للغاية. إن الثورة اندلعت منذ سنتين, وهي مستمرة حتى الآن مع كل سلبياتها ونواقصها. ونحن كسوريين نتحمل مسؤولية فشلها أو انحيازها أو إنزلاقها إلى أية جهة كانت. المسؤولية التاريخية تحتم علينا أن نحافظ على أهداف الثورة من خلال تحديد الهوية التي ينتمي إليها كل السوريين من عرب والكورد وآشوريين وتركمان بالإضافة إلى كافة الطوائف والأديان, من خلال البدء بتحرك مستنفر وفعال بين ممثلي تلك المكونات للبحث عن سبل وآليات من أجل إنقاذ الثورة من الإنزلاق وتوجيهها نحو المسار الصحيح. وأن أي استهتار بما يجري الآن على الساحة السورية من عربدات إجرامية, ومن أية جهة كانت, تتحمل المسؤولية كاملة وبالتشارك مع من يلحق الأذى بالثورة ومن يرتكب الإجرام بحق السوريين. إن ممثلي المكونات من الشعب السوري أمام مسؤولياتهم الوطنية والأخلاقية للقيام بمبادرة تنسف كل المبادرات السابقة, من إقليمية إلى دولية والتي لم تجلب إلى سوريا سوى مزيداً من القتل والدمار.. عليهم الخروج من قننهم المتعفنة والبدء بدعوة الى مؤتمر وطني شامل من أجل إنقاذ الثورة وسوريا من الإرهابيين الذين يمتثلون بدماء الشعب السوري وبمؤازرة النظام نفسه. فرصة تاريخية تنتظر أهل سوريا الحقيقيون من أجل تحديد الهوية السورية, وبالتالي تحديد هوية الثورة ووجهتها المفترضة, إن كنا صاديقين للحفاظ على وحدة سوريا أرضاً وشعباً وكيانات, في إطار شعب ينتمي إلى دولة اسمها سوريا.
أحمـــــــد قاســــــــم
الكاتب والسياسي الكوردي السوري 25\4\2013