محمد رشو :
قراءة في أسبوع مركز الجزيرة للدراسات حول المسألة الكوردية في المشرق :
قيام إدارة ذاتية كوردية في تركيا، بين الحاجة التركية والأزمة الأخلاقية (1)
تعتبر القضية الكردية في تركيا مشكلة مزمنة، تهدد أمن البلاد وترهق اقتصادها وتعوق التنمية الشاملة، فضلا عن أنها تحد من الدور الإقليمي لتركيا، لاسيما في ظل الصراعات الإقليمية الجارية وإمكانية استخدام هذه القصية كورقة في الصراعات و التطلعات.
خلال العقود الماضية ولاسيما في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، قمعت الحكومات التركية المتتالية العديد من الانتفاضات الكردية المسلحة، وأنكرت وجود مشكلة كردية، ومارست سياسة الإنكار والتهميش والإقصاء ضد المكون الكردي.
لا يخفى على المراقب أن سياسة تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية شهدت تحولات اجتماعية وسياسية مهمة، ومن بينها محاولة مقاربة القضية الكردية وحلها سلميا، من خلال الربط بين هذه القضية والإصلاحات التي أجرتها الحكومة، وانتهاج مساع محددة من نوع خريطة الطريق الكردية التي طرحها أردوغان عام 2009، قبل أن يتراجع عنها لصالح خطة الانفتاح الديمقراطي.
وكذلك من خلال اتخاذ سلسلة خطوات انفتاحية كالبث التلفزيوني باللغة الكردية TRT6 وحق التعلم بها، لكن كل ذلك بالتوازي مع الاستمرار في سياسة وضع حزب العمال الكردستاني في خانة الإرهاب.
اليوم مع استئناف المفاوضات مجددا بين رئيس الاستخبارات العامة التركية حقي فيدان -بتكليف من أردوغان- وزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان المسجون في إيمرالي للتوصل إلى إطار أو وثيقة للحل، ثمة لهجة مختلفة وآمال كبيرة لدى الجانبين، وإدراك عميق لأهمية إنجاز هذه الخطوة التاريخية، واللافت في الجهود الحالية هو محاولة إشراك كافة الأطراف والقوى السياسية من الجانبين، خلافا للمفاوضات السرية التي جرت بين الجانبين في أوسلو عام 2009.
وقد شكلت زيارة النائبين الكرديين أحمد تورك وآيله أكات إلى أوجلان في السجن لاستعراض مضمون ما جرى خلال المباحثات مع فيدان، نقلة نوعية، لا لأنها الزيارة الأولى من نوعها، بل لأنها أثارت حالة من الثقة غير الموجودة، ونجحت في نقل ما جرى داخل السجن إلى الخارج، ومعرفة الردود الأولية للقوى التركية والكردية، مما يعني جعل القضية قضية رأي عام، وليست مجرد لقاء سري كما كان يحصل في السابق .
حسب المصادر التركية فيما سربته الصحافة التركية، فإن رؤية الحكومة التركية تقوم على:
1- وقف إطلاق النار
2- انسحاب المقاتلين الأكراد من الداخل التركي إلى معاقل الحزب في جبال قنديل
3- البدء في نزع سلاح المقاتلين
4- إصدار عفو عام عن عناصر الحزب
5- مع بحث مصير قياداته وتأمين ملجأ لهم
6- إطلاق سراح المئات من السجناء الأكراد
على أن تكون هذه الخطوات متسلسلة وتسمح بالانتقال إلى المرحلة الثانية، أي مرحلة المعالجة السياسية التي من أهم معالمها إقرار قانون للإدارة المحلية يشمل كل تركيا وليس المناطق الكردية فقط.
مقابل الرؤية التركية، تقوم الرؤية الكردية على خطوات محددة منها:
1- النظر في وضع أوجلان في السجن
2- عفو عام وشامل عن جميع عناصر وقيادات الحزب في الداخل والخارج
3- الاعتراف بالهوية الكردية دستوريا
4- منح الأكراد حكما ذاتيا في مناطق جنوب شرقي البلاد.
مقارنة بسيطة بين الرؤيتين، توضح أن الجانب التركي يركز على نزع سلاح الحزب الكردستاني، والتهرب من أي اعتراف بكيان ذاتي للأكراد، فيما الجانب الكردي يركز على حل متكامل يربط نزع سلاحه بحل سياسي شامل ودائم.
على الرغم من مرور قرابة 15 عاما على وجود أوجلان في السجن، فإن الرجل ما زال صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد مصير القضية الكردية في تركيا، وفي تحديد سياسة حزب العمال الكردستاني الذي أسسه قبل 35 عاما.
ويبدو أن الحكومة التركية أدركت هذه الحقيقة. وعليه، فبعد سنوات من وصفه بالإرهابي وقاتل الأطفال والمجرم الذي يستحق الإعدام...، اتجهت إليه على أمل أن يقتنع الرجل في لحظة ما بتوجيه رسائل إلى القيادات العسكرية لحزبه من أجل نزع سلاحه والانخراط في تسوية سياسية.
لكن من يعرف أوجلان عن قرب يدرك أن هذا الرجل لا يثق بالوعود التركية، فهو كثيرا ما يرى في هذه الوعود نوعا من المناورة السياسية لتحقيق أهداف محددة. ولعله ينطلق هنا من تجربته السابقة عندما قام الرئيس العراقي جلال الطالباني بوساطة بينه وبين الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال. ونتيجة لهذه الوساطة، أقر أوزال بصيغة الفدرالية لحل القضية الكردية، ولكن سرعان ما توفي أوزال في ظروف غامضة، وسط تقارير تقول إنه مات مسموما بعد أسابيع من كشف المحادثات غير المباشرة التي جرت بينهما.
وبالتأكيد، فإن ظروف اليوم مختلفة عن مرحلة أوزال، فحزب العدالة والتنمية الحاكم يسيطر على الرئاسات الثلاث (البرلمان، والحكومة، والجمهورية)، ومتحرر من هيمنة الجيش والدولة العميقة، ولعل مجمل ما سبق يعطيه المزيد من عناصر القوة لاتخاذ خطوات تاريخية من أجل حل القضية الكردية سلميا.
الثابت أن انخراط الحكومة التركية في مفاوضات مباشرة مع أوجلان -دون وسطاء- بغية التوصل إلى حل سلمي للقضية الكردية، دليل على توفر القناعة بأهمية حل هذه القضية سلميا لأسباب داخلية وخارجية، لكن محنة تركيا هنا تبدو في كونها مجبرة على محاورة رجل في المعتقل وصفته بالإرهابي والقاتل، والتحدي هنا هو في كيفية الاقتناع بأن هذا الرجل كان يدافع عن قضية شعب حرم من حقوقه عبر التاريخ، ودفع من أجل ذلك الغالي والنفيس، ليتنقل بذلك من خانة الإرهابي إلى المناضل الذي كثيرا ما يقارنه الأكراد بنيلسون مانديلا.
ومحنة تركيا هنا أيضا هي أنها تدرك أن الشخص الوحيد الذي يستطيع إنزال مقاتلي حزب العمال من الجبال هو أوجلان، وأنه لا حزب في الساحة الكردية التركية يستطيع أن يحل محل حزب العمال أو أن يكون بديلا عنه، فهي تدرك في العمق أنه حتى حزب السلام والديمقراطية الكردي الممثل في البرلمان بـ36 نائبا، ليس سوى الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، ويأتمر هو الآخر بأوامر أوجلان، وعليه فإن الرجل بحق هو العقدة والحل، ويبدو أن أنقرة بالتفاوض معه مباشرة قررت الانتقال معه إلى ضفة الحل الممكن رغم صعوبته.